الأسبوع السياسي
المعطى السلفي يصرف الأنظار عن أمهات القضايا
|
كم نحن في حاجة ماسة إلى قراءة متأنية في المشهد الحالي، مع شيء من المسافة تجاه ما يحدث، وقدرا كبيرا من الموضوعية والمنطق والحكمة لما قد يحدث..
|
انظروا كيف تدحرج المشهد العام في تونس من مطالب للتشغيل، ورغبات جامحة في إصلاح الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية، وبناء مسار ديمقراطي على أسس صحيحة، إلى أن أصبحنا مع مطلع كل يوم جديد نعيد عقارب الزمن إلى الوراء، وكأننا في تونس اليوم لا نبغي انبلاج فجر جديد، لنلازم مكاننا حيث وطأة المطالب الشعبية والإضرابات والاعتصامات والتجاذبات، وحمى السلفية التي أصيب بها المجتمع.. ونكتشف في نهاية الأمر أن عقارب الساعة تدور، لكن حول الكراسي.. تكرر نفسها.. تجترّ رغبات دفينة تعيدنا إلى أصل الداء: اللعنة التي حلت بالشعوب تحت مسمى الحكم.
قبل أكثر من عام كانت البلاد بصدد اكتشاف سلفييها، كان الأمر في البداية تصرفات فردية، ثم كان التخوف والخوف، إلى أن أصبحنا أمام ظاهرة لا نعرف أول خيوطها مثلما نجهل آخرها.. إنها متاهة بأتمّ معنى الكلمة، بعد أن كان يفترض أن ينخرط السلفيون في أحزاب، وينشطون في ظل احترام القوانين والحريات وحقوق الإنسان، إلا أن الأمر تطوّر إلى مواجهة مسلحة مع السلطة.
هذه المواجهة بدت وكأنها حتمية، لأن الأطراف الفاعلة في المجتمع المدني -وهنا نقصد الأحزاب الكبرى والمنظمات الحقوقية- لم تأخذ الظاهرة مأخذ الجدّ، إما عن سوء تقدير لقوة السلفيين، أو رغبة في إحداث توازن في الساحة السياسية للحدّ من تأثير حركة النهضة، وهنا وقع جانب من الإعلام في الفخ بالنفخ في السلفيين وتقديمهم كعنصر إثراء للإسلاميين، بما يمثل منافسا حقيقيا للنهضة وحلفائها في غياب التيارات اليسارية وانعدام أحزاب الوسط.
وليس من قبيل الصدفة أن نكتشف أن السلفيين خمدت أصواتهم، وتوقفت تحركاتهم لفترة، ثم عادوا بقوة في أحداث متفرقة، وبصورة واضحة وجلية في أحداث السفارة الأمريكية وما صاحب تلك الأحداث من اتهامات بوجود تراخ أمني متعمّد.
وليس من قبيل الصدفة أن يعود التيار السلفي، بل التيارات السلفية بمثل هذه القوة إلى واجهة الأحداث، بعد الإعلان عن تشكيل حركة » نداء تونس « ، وظهور احتمالات ائتلاف بعض التيارات والأحزاب معها، وهو ما يعني أننا أمام منطق انتخابي بحت، ولسنا أمام ظاهرة نبحث لها عن حلول ومعالجات، أهمّها بالتأكيد حملها على النشاط العلني والمنظم.
إذن نحن لسنا أمام واقع، بل أمام أمر واقع.. ففي الحالة الأولى نكون قادرين نظريا وعمليا على محاولة التغيير، أما في الحالة الثانية فنحن في حالة عجز، أي أمام أمر لا يملك أحد القدرة على مواجهته والتأثير فيه، وبالتالي لا يبقى سوى التعاطي معه، بما يعني الاعتراف به كما هو، وليس كما يتعيّن أن يكون في صلب المجتمع.
ولسائل أن يسأل: أين البرهان في مقولة الأمر الواقع؟ الجواب يحيل مباشرة على الشريط الشهير للشيخ راشد الغنوشي وهو يتحدث إلى عدد من السلفيين ويطلعهم على مواقفه من بعض المسائل، فرغم ما أثير من عنصر للمفاجأة بخصوص شريط الفيديو وظروف تسريبه، فإن ما ورد فيه هو البحث عن نقاط التقاء بين الجانبين، ومحاولة لاستيعاب » الفائض« في التيارات السلفية، أي احتواء المعتدلين بوضع إطار للتعامل والتشارك وتبادل المصالح، وفي هذا السياق يمكن استحضار فرضية أن يكون التيار السلفي أولا محفزاcatalyseur) ) على الساحتين القاعدية والسياسية، وثانيا خزانا لأصوات الناخبين، ونحن في سنة انتخابية بكل المقاييس.
وفي مقابل هذا المشهد نرى سلفيين تمردوا على التمشي، ربما اعتقادا منهم بأنهم أقوى من أن يكونوا وسيلة في الساحة السياسية، سواء كانت للتأكيد على هوية المجتمع وعمقه الإسلامي، أو لدفع عداد الأصوات الانتخابية إلى الحدّ الأقصى، أي إلى الأغلبية المطلقة بمفهوم ديمقراطي، أو الساحقة بمفهوم فئوي.
كما يمكن القول أن جانبا كبيرا من السلفيين لا يرغبون في أن يكونوا عنصر دعم للمسار الديمقراطي، برفضهم مبدأ الديمقراطية وتفضيلهم النشاط إما في إطار الدعوة، وإعادة أسلمة المجتمع على أسس صحيحة، أي إعادة تشكيل الكائن التونسي عقائديا مع كل ما يفترض أن ينجر عنه من سلوك وقواعد تصرف على مختلف الأصعدة سياسيا واجتماعيا، وفي هذا السياق نلمس مدى رغبة النهضة في التمسك بتضمين الشريعة في الدستور، وإما من خلا ل النشاط الجهادي المستهدف لبنى المجتمع وقيمه، أو إبداء الكراهية للغرب والدعوة إلى مواجهته، ولعلنا نجد صدى لهذا الأمر في موقف النهضة المناهض للتطبيع مع الكيان الإسرائيلي، وهو ما تمّ التأكيد عليه في مؤتمر الحركة في جويلية الماضي، رغم تحوّل الموقف عند مناقشة الفصل 27 من مشروع الدستور.
ولعل تركيز الأنظار حاليا على المسألة السلفية، وتذبذب المعالجة الأمنية مع منتهكي القانون، من شأنه أن يصرف الأنظار عن الملفات الرئيسية في البلاد، وهي التشغيل وغلاء الأسعار والتنمية في الجهات وتعبيد الطريق أمام الاستثمارات المحلية والخارجية، بينما المعارك السياسية على أشدّها، سواء داخل المجلس التأسيسي أو خارجه، إضافة إلى بعض الملفات التي تفتح قضائيا.
إذن لا سبيل إلا لإعادة كتابة الواقع التونسي على أسس منطقية، تأخذ بعين الاعتبار التركيبة الفكرية والاجتماعية السائدة في تونس على مرّ العصور، خصوصا أننا في محيط متوسطي يهمّنا مثلما يهمّه أن يكون هناك تفاعل مشترك، لأن نظرة سريعة عما ينشر في الصحف الأوروبية وما تبثه القنوات التلفزية في أوروبا عن الوضع في » تونس السلفية « ، كفيل بمقاطعتنا سياحيا واقتصاديا وثقافيا..
شعب تونس مسلم، فمن قال عكس ذلك؟
نور الدين عاشور
|
الاثنين، 5 نوفمبر 2012
المعطى السلفي يصرف الأنظار عن أمهات القضايا
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق